صحيفة الأهرام المصريه الثلاثاء 10/ربيع أول / 1429 18/مارس/2008
في الوقت الراهن بوجه أخص, وأكثر من أي وقت مضي, يجب أن تستنفر كل الطاقات الفاعلة في مصر وتستدعي للإجابة عن السؤال: ما العمل؟
(1)
لا أريد أن أصدق أن الناس يصطفون الآن في طوابير يتسابقون عليها منذ الفجر, لكي يشتروا حقهم في خبز اليوم, قبل ثلاثين عاما كنا نستحي حين نذكر لزوارنا أننا نقف في الطوابير لكي نحصل علي الدجاج, وكانوا يتعاطفون معنا ويرثون لحالنا, ولا أعرف ماذا يمكن أن يقول هؤلاء حين يرون الناس تتزاحم علي طوابير الخبز, وحين يعرفون أن عشرة مصريين سقطوا في ساحة العراك من أجل ذلك, والرقم ذكرته الأهرام في يوم الأربعاء13-3, في حين قال تقرير قناة الجزيرة في اليوم السابق انهم15, الدكتور أحمد الجويلي أمين مجلس الوحدة الاقتصادية وزير التموين الأسبق قال لي إنهم لو كانوا واحدا فقط فهي كارثة.
لا أريد أن أصدق أن في مصر أناسا لجأوا الي الانتحار لأنهم وجدوا أطفالهم يتضورون جوعا وعجزوا عن إطعامهم, أو لأنهم فقدوا الأمل في العثور علي العمل, واستبد بهم اليأس وعضهم الجوع, فلجأوا الي الانتحار بدورهم كحل أخير.
لا أريد أن أصدق ما رأته عيناي ذات صباح, حين وقعت علي خبر يقول إن امرأة مسنة وقفت أمام جمع من أعضاء مجلس الشعب, وقالت لهم إنها وأسرتها لم يذوقوا طعم اللحم منذ ثلاثة أشهر, وهو كلام أمن عليه باحثون, قالوا إن هذه ليست حالة خاصة, وإنما هي ظاهرة عامة في المجتمع المصري الآن.
بأذني سمعت المهندس نيازي سلام رئيس بنك الطعام, وهو يقول إنه كلف فريق عمل برصد مظاهر الفقر في الأحياء العشوائية المحيطة بالقاهرة ـ عاصمة أم الدنيا ـ وأعدوا شريطا وثائقيا, لم يصدق أحد ممن شاهدوه أنه يسجل واقعا حاصلا في مصر, ومنهم من انفجر باكيا من هول ما رأي, حتي طلبوا إيقاف عرض الشريط, سمعته يقول أيضا إن في بعض قري الصعيد أناسا استبد بهم الجوع حتي أصبحوا يأكلون الفئران البرية.
مثل هذه الشواهد لا حصر لها, وكلها تقول بصوت مدو يخرق الآذان, إن غول الغلاء قد توحش وأصبح ينهش أجساد الفقراء النحيلة, علي نحو بات يضغط عليهم بشدة بصورة أذلتهم وكادت تقصم ظهورهم, وهؤلاء الفقراء أصبحوا يشكلون الكتلة الكبري والأغلبية الساحقة في المجتمع, الذي بات مقسما بين أثرياء ـ بعضهم لا حدود لثرائهم ـ وفقراء لا نهاية لأحزانهم وفقرهم, وهي صورة لا تدع مجالا للشك أن مصر تمر الآن بلحظة حرجة للغاية, لا تصلح معها المسكنات والمهدئات, وتتحول معها التصريحات المتفائلة الي مصدر للاستفزاز والسخط, ودليل يعزز من أزمة الثقة ويعمق في الشرخ الموجود في المجتمع.
(2)
أرجو ألا يكون الرد علي كل ذلك أرقاما ونسبا مئوية تتحدث عن معدلات النمو الجيدة ومتوسطات الدخول المحترمة, ومئات الألوف من فرص العمل التي توافرت, وملايين الدولارات التي دخلت سوق الاستثمار, لعدة أسباب أحدها أننا لا نستطيع أن ندعي أن معدل النمو مرتفع وفرص العمل تنهال علينا كالمطر والسياسة الاقتصادية حققت أهدافها, لكن أحوال الناس متدهورة ويرثي لها, ذلك أننا سنصدق كل ذلك ونتأكد من صحته حين يشعر الناس بأن هذه الانجازات طرقت أبواب بيوتهم ذات يوم, السبب الثاني أن تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادر عن مؤسسة الأهرام عن العام الحالي, سجل تضاربا في الأرقام المعلنة المتعلقة بمعدلات النمو ونتائج جهود مكافحة البطالة والفقر( من ص198 الي202), الأمر الذي يضعف الثقة في صدقية تلك الأرقام.
مع ذلك, فإننا اذا صدقنا ما يقال من بيانات رسمية, وأحسنا الظن بها, وفي الوقت ذاته وجدنا أن الأوضاع المعيشية للناس تزداد سوءا, فذلك يعني ثلاثة أمور: أولها أن المشكلة الاقتصادية والاجتماعية لم تحل, وثانيها أن ما أتخذ من إجراءات ليس كافيا, وثالثها أن السياسات المتبعة ذاتها تحتاج الي إعادة نظر.
نسمع حديثا مستمرا عن ارتفاع الأسعار العالمية, وذلك حق يراد به باطل, أولا لأن ارتفاع الأسعار العالمية لا يشمل كل السلع, في حين ان الارتفاع الفاحش في الأسعار لم يستثن سلعة موجودة في السوق المصرية, ثانيا, لأن ثمة دلائل تشير الي أن ارتفاع الأسعار العالمية بولغ فيه كثيرا, بحيث احتج به بعض الصناعيين ليضاعفوا أسعار منتجاتهم بمعدلات أعلي بكثير من معدل الارتفاع في السوق العالمية, وجنوا من وراء ذلك أرباحا خرافية, آية ذلك أن أحد كبار الصناعيين صرح للصحف في الأسبوع الماضي, بأنه دفع ضرائب عن السنة المالية الأخيرة بما قيمته375 مليون جنيه, واذا صح ذلك, وكانت تلك قيمة الضريبة التي دفعها علي صافي ربحه في العام, بعد سداد كل التكاليف والنفقات ـ فمعني ذلك أنه حقق ربحا يعادل مليارا و700 مليون جنيه في عام واحد, وهو ربح هائل لا نحسده عليه, لكنه يفسر لنا في نفس الوقت لماذا ظل سعر السلعة التي ينتجها يتزايد علي مدي العام كل شهر, وأحيانا كل أسبوع, متذرعا في ذلك بارتفاع الأسعار العالمية, في حين تبين لنا أن تلك الزيادات التي ضربت سوق العقارات, كان هدفها زيادة أرباحه بمعدلات فاحشة, وليس تغطية ذلك
الارتفاع في الأسعار.
علي صعيد آخر, فإن تأثر مصر الشديد بارتفاع الأسعار العالمية, جاء كاشفا لمدي هشاشة وضعف هيكلها الاقتصادي, الذي أصبح يقوم علي الخدمات بالدرجة الأولي وليس الإنتاج, لأن الدول اذا كان لديها ما تنتجه فإن اكتواءها بنار ارتفاع الأسعار العالمية يظل محدودا, خصوصا اذا كانت تصدر شيئا مما تنتجه, مما قد يحدث توازنا مع ما تستورده, أما الدول غير المنتجة فإنها تصبح فاقدة المناعة أمام رياح الأسعار العالمية.
(3)
قبل سبعين عاما( سنة1938) قام أحد اليابانيين المسلمين ـ اسمه تاكيشي سوزوكي ـ برحلة لأداء مناسك الحج, وبعد أن عاد ألف كتابا عنوانه ياباني في مكة ـ ترجمه الي العربية الدكتور سمير عبدالواحد إبراهيم وزوجته اليابانية سارة تاكا هاشي ـ ولأسباب متعلقة بتأشيرة الدخول, جاء الرجل الي القاهرة واستقل الباخرة من السويس الي جدة, وهم علي الباخرة, عرض عليه فيلم فكاهي أمريكي, وفيلم تجاري مصري, وهو يصف الفيلم الأخير قال إنه بدأ بعرض مهرجان أو حفل مقام في قرية مصرية, قدمت فيه بعض النسوة رقصات مختلفة, في حين جلس آخرون يتابعونهن, وقد قامت واحدة من بين المتفرجين لتشترك في الرقص, ولكن الأيدي امتدت لتجذب ثوبها, الذي تمزق, فسألتها الراقصات عن مصدر قماشه, وعرفن أنه ياباني الصنع, فشرعن في توبيخها لهذا السبب, مما أثار استياءها ودفعها الي الاشتباك معهن بكلام تطور الي عراك, حاولت خلاله المرأة أن تنال من ثياب الأخريات لكنها فشلت, وحينئذ قالت لها النسوة: لماذا اخترت القماش الياباني الضعيف, وفي مصر أفضل منه, وشركة مصر للأقمشة تنتج أصنافا رائعة,
وعلي المصريين أن يستخدموا منتجات بلدهم, وأن يتخلوا عن الأقمشة المستوردة, وفي اللحظة الأخيرة من الفيلم ذهبت المرأة باكية الي المدينة واشترت قماشا من إنتاج شركة مصر, وعادت الي الحفل فرحبت بها الراقصات وصرن جميعا صديقات لها, وعند هذه النهاية صفق المسافرون الي الحج طويلا, وهو ما أغاظ صاحبنا الياباني, الذي لم يسترح إلا عندما وجد أن الشاشة التي عرض عليها الفيلم مصنوعة في اليابان!
أذكر بأن ذلك حدث قبل سبعين عاما, حين كان في مصر صناعة للنسيج تعتز بها, وكانت هناك غيرة علي المنتج المصري, الذي تدهور الآن, وسقط من أعين المصريين.
(4)
لست أشك في أن الذين اعتزوا بالقماش المصري وقتذاك وأرادوا اقناع ركاب الباخرة بأنه أفضل من الياباني, لم يخطر علي بالهم الموقف الذي وصلنا إليه الآن, وربما تصوروا أن بلدهم سوف يكتسح اليابان في الأسواق, الأمر الذي يطرح علي أهل الذكر في مصر سؤالين كبيرين هما: لماذا جري ما جري, وهل المشكلة في الاقتصاد أم في السياسة أم في الاثنين معا؟ ثم ما العمل؟ ولأنني لست من هؤلاء, فلا كلام لي في الموضوع, لكني لا أتردد في القول بأن النتائج التي تحققت حتي الآن تدلنا علي أن خطأ جسيما حدث في التشخيص أو التنفيذ أو السياسات أو الأشخاص والآليات, وفي كل الأحوال فالأمر لا يحتمل انتظارا, وانما يحتاج الي مراجعة شاملة وعاجلة, تصوب الخلل أيا كان مصدره, والعجلة ليست وحدها المطلوبة, وانما نحن بحاجة الي شجاعة أيضا, لأن الذين أعطوا أكثر من فرصة واستنفدوا مرات الرسوب, يجب أن يخلوا مواقعهم لمن يستطيع أن يسترد ثقة الناس, وينهض بما عجزوا عن القيام به, واذا كان مدرب كرة القدم يستبعد بمجرد الفشل في أي مسابقة مهمة, فإن إدارة اقتصاد البلد واستقرار أوضاع الناس المعيشية ليست أقل أهمية من مباريات كرة القدم.
لقد قال لي أحد الوزراء المخضرمين, إن الرئيس جمال عبدالناصر كان يقول في اجتماعات مجلس الوزراء, إن هناك سلعا اذا نقصت في الأسواق يوما ما, فينبغي ألا يذهب الوزير المختص الي مكتبه في اليوم التالي, وحدد هذه السلع بخمس هي: الخبز والقمح والفول والعدس والسكر ـ ما رأيكم دام فضلكم؟